حب التملك من الغرائز الأصيلة في الإنسان، وهي ضرورية لسير الحياة وإدارتها، وهي تمر بمراحل تطورية في الأطفال؛ وتحتاج أولاً إلى حسن تعرُّفٍ من المربين حتى لا يتسببون في المشكلات لأنفسهم ولأبنائهم، ثم تحتاج ثانيًا إلى رعايةٍ وتهذيبٍ وتدريب؛ حتى تكون في حجمها الطبيعي السوي المعتدل بلا إفراط ولا تفريط بلا شُحٍّ ولا إسرافٍ؛ وحتى نحسن التعامل مع هذه الغريزة يجب أن نتعرف على المراحل والتدابير الآتية:
1- مرحلة بدء غريزة حب التملك وغياب مفهوم الملكية الخاصة:
الفترة الزمنية للمرحلة: من عمر 1- 3 سنوات
سمات المرحلة:
تبدأ غريزة حب التملك في الطفل مع نهاية السنة الأولى من عمره بالحرص على أخذ الأشياء والاستحواذ عليها بطريقةٍ تلقائيةٍ بريئة بلا غضاضة ولا حرج ولا حدود ولا قيود، ومن الطبيعي أن يأخذ الطفل الشيء الذي يلفت انتباهه، وفي البداية قد يستعين بالكبار لتمكينه من تملك الأشياء التي تعجبه، ثم بعد ذلك يمد هو يديه إلى الأشياء التي تعجبه، وهو في هذه المرحلة لا يستطيع التمييز بين ملكيته وملكية الغير؛ وذلك لعدم نضجه وإدراكه؛ ويجب ألا نتعصب نحن الكبار ونغضب حينما نرى الطفل بتلقائية يقبل على أخذ الأشياء، وخاصةً إذا كنَّا ضيوفًا.. فنستشعر الحرج حينما يمد الطفل يديه إلى الأشياء أو يبكي ويضرب بيديه ورجليه ويلقي بنفسه على الأرض حينما يُمنع من أحد الأشياء التي يطلبها، ونقول هذا ولد سيئ الأدب أحرجنا مع الناس.
واجبنا في هذه المرحلة:
إذا كان كل طفل مفطورًا على حبِّ الملكية، فيجب أن نحترم فيه هذه الفطرة ولا ننزعج عندما نرى الطفل في هذه المرحلة يحبُّ أن يستأثر بكلِّ بشيء؛ ومن واجبنا في هذه الفترة إشباع الطفل وتلبية حاجاته والإغداق عليه، وعدم الغضب عند أخذه الأشياء، بل علينا أن نحرص على أن تكون مرحلة الطفولة مرحلة إشباع وإغداق وود وحنان؛ حتى نملأ عيني الطفل ولا يضطر إلى التعويض عن النقص بالعدوان على ممتلكاتِ الآخرين.
ولقد علمنا خير مربٍّ صلى الله عليه وسلم أن نشبع احتياجات الأطفال ونقدمها على احتياجات لكبار ويتضح ذلك جليًّا في الآتي:
1- هديه صلى الله عليه وسلم عند قدوم فاكهةٍ جديدةٍ أن نبدأ أولاً بأصغر أهل البيت سنًّا حتى لا يشعر بالحرمان بمشاهدة الكبار يأكلون قبله.
2- توصيته صلى الله عليه وسلم الجيران بإشباع أطفال جيرانهم عند دخولهم عليهم فقد ورد في كنز العمال للمتقي الهندي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة إذا دخل عليك صبي جارك فضعي في يده شيئًا فإن ذلك يجر مودة". رواه (الديلمي عن عائشة).
وكذلك علينا بدلاً من لوم الطفل أن نبعد عن عينيه الأشياء التي لا نريده أخذها أو لفت انتباهه لأشياء أخرى تصرفه عن الأشياء التي يتعلق بها بقاعدة: (البعيد عن العين بعيد عن القلب).
لذا علينا أن ننشر بين الناس ثقافة تقبل سلوك الطفل قبل عمر ثلاث سنوات بخصوص عدم تمييز الملكية الخاصة مع محاولة تهذيبه وتعليمه بلطفٍ ورفقٍ وبلا تشنج ولا عنف.
2- مرحلة إدراك وتعلم مفهوم الملكية:
الفترة الزمنية للمرحلة: مرحلة الطفولة المبكرة من 3 - 6 سنوات
سمات المرحلة وواجبنا فيها:
يبدأ الطفل في إدراك الفرق بين ملكيته الخاصة وملكية الآخرين، ويفهم أن أخذ شيء ما مملوك للغير أمر خطأ، وعند ذلك نبدأ بتدريب الطفل على احترام الملكية، فدورنا أن نرشِّد فطرة حبِّ التملك ونهذبها ونوجهها الوجهة الصحيحة ولا نطلق لها العنان فنترك للطفل الحبل على الغرب؛ فيتعود الطمع والجشع والعدوان على ممتلكات الآخرين ولا نحرمه ونقتِّر عليه ثم نعاقبه حينما يحاول أن يكوِّن لنفسه ملكيةً خاصةً بتعديه على ملكيات الآخرين، فنكون نحن نسير في طريق ضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها بل دورنا هو إشباع حب الملكية دون تقتيِّر يحس معه الطفل ألم الحرمان ولا تبذير يُصَاب معه الطفل بمرض الإسراف والتعدي على الغير.
ويمكننا تربية الطفل على احترام الملكية من خلال الآتي:
1- أن نخصص للطفل أشياءً ونحترم ملكيته لها، وأنه هو الوحيد المتصرف فيها دون غيره، ثم ندرِّبه على احترام ملكية الآخرين، وأنه لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن أصحابها ويكون التدريب بطريقةِ التجريب والخطأ مع التصحيح مرارًا وتكرارًا حتى يستقر المفهوم في نهاية المرحلة.
2- أن نمتنع عن شراء لُعبة مشتركة لاثنين من الإخوة، بل كل واحدٍ له ملكيته الخاصة التي لا يعتدى عليها أحد، وفي نفس الوقت نعلِّمه احترام ملكية الآخرين، وكما لا نعتدي نحن على ملكيته فعليه أيضًا ألا يعتدي على ملكية الآخرين.
3- أن نُوفِّر للطفل قدر المستطاع: دولابًا خاصًّا وألعابًا خاصة وأدوات خاصة، وفوطة خاصة وملعقة خاصة وطبقًا خاصًّا.
4- يجب تجنب الغضب والانفعال من أخطاء الأطفال وممارساتهم؛ لأنهم في مرحلة تدريب.
5- أن نتبع الأسلوب المناسب في التوجيه بتوفير القدوة والممارسة الصحيحة، في إطارٍ من الحب والود مع الحزم والنظام.
6- يجب أن ندرك أن الطفل في هذه المرحلة (مرحلة الطفولة المبكرة) يكون في مرحلة التفكير المتمحور حول الذات، وعندما نقدِّم له أي مفهوم يجب أن يكون في صورة ترتبط بذاته وأن يكون فيه منفعة سواء مادية أو معنوية لذاته؛ لأن تفكيره في هذه المرحلة متمركز حول الذات بشكلٍ قوي؛ ويجب أن نتجنب الخوض في الأفكار المجردة التي لا يدركها عقل الطفل كثيرًا في هذه المرحلة مثل سرد الأحاديث والآيات القرآنية والكلام عن جريمة السرقة وأهمية الأمانة.. وإذا أحببنا أن نُقدِّم هذه المبادئ فيجب علينا أن نشرحها بأسلوبٍ مبسَّط وبطريقةٍ محسوسةٍ يُدركها عقل الطفل كأن نقول: هذه الألعاب أمانة، الأمانة هي أن نحفظ أدوات الناس ونعيدها إليهم وندِّربه على الكرم بأن نعطيه من أشيائنا، ونقول له "الكريم الجميل الحلو هو الذي يُعطي، والبخيل الوحش هو الذي لا يعطي"، ومع الوقت يتدَّرب بشكلٍ عملي على حبِّ العطاء والكرم.
يكفي في توجيه الطفل التركيز على حدود الملكية فقط، فإذا حضر الطفل من زيارة بيت عمه ومعه لعبة خاصة بابن عمه يمكننا أن نوجهه بالآتي:
هذه اللعبة ملكٌ لابن عمك، غدًا نُرجعها إليه.. لديك ألعابك الخاصة ولا أحد يأخذها منك، أما هذه الألعاب فهي خاصة بابن عمك.
3- مرحلة استقرار مفهوم الملكية وبدء التأديب والتقويم:
الفترة الزمنية للمرحلة: من عمر 7 سنوات حتى البلوغ:
إذا تم التدريب الجيد في المراحل السابقة يتضح مفهوم الملكية ويستقر لدى الطفل بدءًا من عمر سبع سنوات، ومع كبر الطفل وزيادة الوعي والإدراك نقوم بتربية الطفل على مفاهيم أعلى مثل (القناعة) و(تهذيب الشهوات)، فالقناعة كنز لا يفنى ونحرص على غرس (المفهوم الحقيقي للغنى) في نفس الطفل، وهو أن الغنى غنى النفس كما علمنا رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف:
"ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس" (رواه مسلم).
وكذلك نبدأ في غرس مفاهيم جديدة تخص الملكية في هذه المرحلة مثل:
1- الإيثار
2- الكرم والعطاء
3- التدبير والتوفير والادخار
وأن نوضح له الفرق بين الادخار المحمود والشُّح المذموم، ثم يُسمَح للطفل بالاستفادة من مدخراته في شراء ممتلكات جديدة، فيشبع بذلك رغبته الفطرية في حب التملك؛ وذلك من شأنه أن يجعل الطفل لا يتطلع إلى ممتلكات الآخرين.
4- مرحلة التأثيم والتجريم عند انتهاك ملكية الآخرين:
الفترة الزمنية للمرحلة: ما بعد البلوغ:
الأطفال قبل البلوغ لا يسرقون بالمعنى الحقيقي والأخلاقي لكلمة السرقة.. ولا يمكن تجريم الطفل قبل نضج المعيار الأخلاقي واستقراره لديه؛ فالمعيار الأخلاقي الناضج هو الذي يمكن الشخص من الحكم الصحيح على الأشياء وتحديد المواقف الصحيحة تجاهها، وهذا المعيار الأخلاقي لا يكتمل إلا بعد البلوغ.
وبالتالي يبدأ التأثيم والتجريم وتحميل المسئولية الكاملة للشخص في شرعنا الحنيف بدءًا من البلوغ (مرحلة التكليف الشرعي) وهذا الالتزام عند البلوغ يأتي بعد الفترات السابقة التي تم فيها توضيح المفاهيم والمبادئ والإشباع وتحقيق الرغبات بالقدر المعقول والتدريب العملي والنضج العقلي.
هكذا يجب أن نسير عبر كل مرحلةٍ من المراحل؛ فمن عرف أراح واستراح ويجب أن يتغير سلوكنا بتغير مرحلة النمو والتطور التي يمر بها الطفل حتى نقوم بواجبنا في رعاية أطفالنا بشكل سوي وسليم وناجح وفعَّال.
الكاتب: د. رشاد لاشين